كورش مدرسي: عملياً انتهت الحرب. ولحسن الحظ فقد انهارت حكومة طالبان الإسلامية المجرمة. وهي فعلاً نكتة ساخرة أن الحركة المناهضة للحرب تفقد أهدفها وتناميها بمجرد سقوط حكومة طالبان. فالجماهير لا تتجه صوب الأهداف المفقودة والحركات التي تعرض نفسها للهزيمة. ولكن من اجل الإجابة على سؤالكم، علينا العودة الى الوراء وبحث التصورات والأفكار الكامنة خلف هذه الحركة. لماذا ارتبط مصير هذه الحركة بمستقبل عصابة مجرمة، معادية للبشرية، إسلامية، وتتجر بالمخدرات، أعاد سقوطها رسم البسمة على شفاه كل إنسان في أفغانستان، وفي كافة أرجاء العالم؟
ينبغي عند تحليل هذه الحركة الفصل بين دوافع أعداد غفيرة من الناس الشرفاء الذين شاركوا فيها وبين الإطار الذي تم خلاله تعريف وتنظيم هذه الحركة. ومن المؤسف، أن الدوافع لا يتم حسابها في نتائج حركة ما. فالمطالب والشعارات والإطار السياسي لحركة معينة هي ما يحدد مكانتها في محيطنا السياسي والاجتماعي وهي ما يبين أين تقف تلك الحركة وصوب أية ضفة تتجه. ومن أجل إعطاء حكم وتقييم سريع بصدد مكانة هذه الحركة أود الإشارة الى حقيقة معينة. ففي السؤال تقولون أن الحركة المناهضة للحرب حركة "تبلورت في الغرب". وهذا هو خطأ وسوء فهم يشير بالطبع الى جذور المسألة. فهذه الحركة هي في واقعها وفي قلب مجتمعات على صعيد العالم، ما كانت حركة غربية ابداً. وفي الواقع، رغم أن أحد أطراف هذه الحركة كان في الغرب، الا أن طرفها الآخر هو في التظاهرات المناهضة للحرب في بيشاور وكابول. ولا يمكن الفصل ابداً بين أهداف وشعارات هذين الطرفين. الادهى من ذلك هو تركيبة الحركة، ففي الشوارع، في الشعارات والمطالب تبدو الحدود غامضة وغير واضحة المعالم بين أولئك القلقين حقاً وبإحساس نبيل على كرامة وحرية الناس في أفغانستان وبين أولئك الدائرين في فلك أعنف الأنظمة السياسية في التاريخ وأكثرها افناءاً وإبادة، أي الحكومة الإسلامية المعادية للبشرية المجرمة. انهما صفان ارتبطا ببعض. فقد تداخل صف المصلين الإسلاميين في هذه الحركة السياسية وأختلط بصف أولئك الأشخاص المحتجين على الإمبريالية. وهذا ما كان بإمكان أي شخص رؤيته والمعاناة منه.
في الصراع ما بين طالبان والإمبريالية، حين نركز على الإمبريالية ونغض الطرف عن دور وأهمية طالبان والإسلام السياسي بشكل أعم فإننا نبلور ونجسد أهدافاً مشتركة مع هذا التيار ونمد له،سياسياً، يد العون. وتكمن جذور هذا الواقع المقلوب في العقلية والتفكير الاستعماري المقلوب لليسار الهامشي في الغرب. ذلك اليسار الذي لم يكن طوال حياته سوى قوة ضغط من أجل مجموعة من المطالب المتفرقة والفاقد لأي أفق مختلف ومتمايز عن النظام الحاكم. يدور بحثي حول مثقفي اليسار في الغرب الذين ينتابهم الإحساس بالذنب إزاء الماضي الاستعماري للغرب ويعتبرون أنفسهم مدينين لما يسمى بالعالم الثالث ككل متكامل. فالمسألة في المنظومة الفكرية لهؤلاء المثقفين ليست مصير الناس الذين يعيشون في هذا "العالم". المسألة هي الانشغال بمفاهيم باعثة للبهجة والسرور حول حياة الناس في الغرب وفي بقية أنحاء العالم. المسألة المحورية هي إزالة هذا الشعور بالذنب وليس الناس في هذا البلد او ذاك. ففي منظومتهم، يمثل "العالم الثالث" وجوداً معطى قائماً بحد ذاته. وفي هذا "العالم" يمتلك الناس ثقافة عجيبة. فالناس تستلذ بحرمانها من آخر المنجزات والمكتسبات في المجتمع البشري، والنسوة في هذا العالم يحبن الحرمان من حقوقهن الإنسانية والمتساوية ويستلذن معنوياً بالتمييز الجنسي، والفتيات يفضلن عزلهن عن الفتيان، والناس في هذا "العالم" العجيب تلعن وتتذمر من حرية التعبير، التفكير والمعتقد،وهم مسلمون يريدون أن تحكم القوانين الإسلامية البالية حياتهم الاجتماعية. والبشر في هذا "العالم" يتم تصويرهم بشكل غير إنساني. هذه هي العقلية والتفكير الاستعماري المقلوب الذي أشرت اليه. فأنا وأنتم وكل تلك الملايين من الأشخاص الذين ناضلنا ونناضل من اجل الحرية والمساواة والرفاه، وناضلنا ونناضل ليس فقط ضد الإمبريالية، بل وضد الإسلام السياسي، ليس لنا وجود خارج هذا التفكير والتصور. نحن الذين قمعنا بوحشية، وتم سجننا وإعدامنا ولسنا موجودين في هذا "العالم" وهكذا ينكروننا، جميعنا، نحن الموجودين تحت ظل الضغوط والتمييز والقمع الذي تمارسه الحكومات الإسلامية والقومية. ويتم الإعلان عن عدم حاجتنا لحقوق البشر "الغربية" والكرامة والرفاه. في هذه الرؤية والتصور لا تعتبر حقوق الإنسان حقوقاً عالمية بل ترتبط بالثقافة والثقافة في هذا العالم هي جزء من الوحشية. فإذا رجم الناس بسبب علاقة بسيطة خارج إطار الزواج أو اعدموا بسبب تشكيكهم في القوانين الإلهية، وهذا هو حقهم وهم جديرون بذلك. إن هذه الرؤية عنا وعن "عالم"نا هي نفس الرؤية الاستعمارية التي وضعت أقدامها في هذا "العالم". رغم إنها رؤية مقلوبة ومغلفة بالشعور بالذنب.
فلو كانت حرية، ومساواة ورفاه الجماهير في أفغانستان قضية، حينذاك ينبغي في البداية أن نعلن الحقوق البديهية لهذه الجماهير وينبغي أن ندافع عن هذه الحقوق مقابل أي شخ يسعى لقمعها ومصادرتها ونختار من يتحدون معنا على هذا الأساس. ومع تحول طالبان والإسلام السياسي الى مسائل "داخلية" قليلة الضرر في المعادلة، فان الحركة المناهضة للحرب بصدد وضع العصي بنفسها في عجلة تقدمها. الحقيقة هي أن صراعاً طويلاً ومريراً جرى ويجري بين جزء واسع من الناس في هذا "العالم" العجيب مع الإسلام السياسي وفي خظم ذلك، أياً كانت المبررات، على الحركة المناهضة للحرب في خاتمة المطاف اختيار شركائها في اتحادها. وقد تجسد هذا الاختيار. فقد اختارت الحركة المناهضة للحرب طالبان والإسلام السياسي كشركاء لها في اتحادها ولم تخترنا نحن. ولا يمكن للحركة المناهضة للحرب بعد سقوط طالبان في كابول المشاركة في أفراح الأطفال الذين تمكنوا من إطلاق طائراتهم الورقية في الهواء، وفي ابتسامات الفتيات اللواتي حصلن على الأقل على حق الذهاب الى المدارس والنساء اللواتي رفعن الحجاب. وهذا هو الجانب المأساوي في الموضوع. واليوم تطالب الحركة المناهضة للحرب ببساطة بإنقاذ مصير الناس في أفغانستان من خلال وبواسطة قوى تحالف الشمال وزعماء القبائل. حقاً انهم بصدد تكرار مأساة إنسانية أخرى.
كورش مدرسي: إذا كانت هذه الحرب هي ضد الإرهاب وليست حرباً ضد الإرهاب الموجه نحو الغرب، عند ذاك ينبغي خوضها على مختلف الجبهات. فالواقع هو أن الحكومات الغربية هي التي دعمت مادياً وقوت ورسخت الإسلام السياسي مقابل الكتلة الشرقية وكذلك كوسيلة للسيطرة على الجماهير في البلدان المختلفة، التي كان بإمكانها تهديد المصالح السياسية والاقتصادية لتلك الحكومات أي العمل الرخيص والاستقرار السياسي. وفي إطار الصراع الفعلي لا تريد الحكومات الغربية فقدان هذه الذخيرة الثمينة والمؤثرة. إنها تريد تطويق الإرهاب الإسلامي ووضع حدود له وقطع يد الإرهاب من التطاول على الغرب. فالإسلام "المعتدل" كان ومازال أحد حلفاء الإمبريالية. ولهذا السبب هم يتعقبون خطى الجمهورية الإسلامية التي هي واحدة من أكثر الأنظمة دموية في التاريخ المعاصر. يريدون جذب القسم "المعتدل" من الحكومة الإلهية إليهم. ومن هذا المنظار، كما أشرت سابقاً، تتعقب الحركة المناهضة للحرب نفس التصورات والتفكير، ولو أنها تريد بشكل مقلوب تأييد الإسلام "المتشدد". وهؤلاء سيصلون لنفس النتيجة ولكن من طريق آخر.
يقولون أنهم ضد الحرب. ولكن ينبغي السؤال فوراً أية حرب يقصدون؟ هل انتم تعارضون الحرب التي فرضت بها الباكستان والسعودية طالبان وبتأييد من الغرب على أفغانستان؟ فأين كنتم في ذلك الوقت؟ هل تقفون ضد الإرهاب الذي تمارسه الحكومات الإسلامية في إيران، أفغانستان، السعودية والباكستان ضد الجماهير العزلاء؟ في هذا التفكير والذهنية الاستعمارية المقلوبة تبدو كل هذه القضايا "شأناً داخلياً. فالإسلام السياسي وانعدام حقوق البشر هي جزء من "ثقافة" الناس في هذه البلدان او في بعض التصورات هي افضل من الإمبريالية. ومثلما أشرت لا تدور هذه التصورات وطريقة التفكير حول حياة الناس في البلدان المستعمرة سابقاً. بل هي انعكاس للإحساس بالذنب الذي يعانيه أولئك المثقفون إزاء الماضي الاستعماري. عدا ذلك كان ينبغي عليهم أن يقفوا ضد الشيطان اياً كانت صورته، كان عليهم الإعلان عن الحقوق البديهية للجماهير والدفاع عنها، والإعلان بأن هذه الحقوق حقوق عالمية وينبغي الهجوم على كل من ينتهكها والاتحاد مع الأشخاص الذي يناضلون من اجل إقرار تلك الحقوق.
كورش مدرسي: إن المعضلة هي مازلت نفس ما قلته سابقاً. انظروا ان ذلك يتطابق مع الرؤية التي ترى "الناس" في تلك البلدان مسلمون ويريدون الإسلام السياسي. بالنتيجة إذا أردتم تنظيم حركة جماهيرية ينبغي عليكم الاتحاد مع الإسلام السياسي. انه حقاً استهزاء وضحك على الذقون. انها عنصرية مقلوبة. لقد قام طوال التاريخ المعاصر، وخصوصاً خلال السنوات العشرين الماضية، صراع حاد بين الناس والقوى التقدمية في الشرق الأوسط وأوروبا من جهة والإسلام السياسي من الجهة الثانية. تأملوا فقط النضال اليومي للناس وممارسات المعارضة غير الإسلامية في البلدان المسلمة. إن عقلية المركزية الذاتية لأشباه المثقفين اليساريين الغربيين التي تتصور ان على العالم ان يتمحور حول إحساسهم بالذنب هي طامة كبرى. إنني اشعر بالخجل من المشاركة في حركة يتعرض فيها دعاة الحرية وناشرو النصوص المناهضة للإسلام للتهديد وتعزل فيها النساء عن الرجال. فحرية التعبير والمساواة بين المرأة والرجل وحق التمتع بحكومة علمانية هي ايضاً حقوق تشمل الناس في "العالم الثالث". أليس من المخجل حقاً أن نتجادل بهذا الخصوص؟
كورش مدرسي: مثلما قلت أشعر بالخجل من المشاركة في مثل ذلك التجمع لأنني اعتبر ذلك استهزاءاً وإهانة. لقد كنت مدافعاً بأعلى صوتي وبطريقة أكثر إقناعا عن الحقوق والكرامة الإنسانية وكنت ساعياً أما أن تطرد تلك القوى الرجعية من التجمع او أن يترك أي إنسان وجماعة ذات ضمير حي وتناصر الحرية التجمع احتجاجاً على ذلك.
كورش مدرسي: الأصولية والإسلام الشمولي هي صياغات عتيقة وبالية ابتدعتها الحكومات الغربية ووكالات الأنباء "الشريفة" للتمييز بين الإسلام "المعتدل" و"المتشدد". وسأشير هنا الى نقطتين فقط. اولاً، هم ليسوا أصوليين بل هم تماماً براغماتيون. فانظروا مثلاً الى الخميني والحكومة الإسلامية في إيران. انهم يعدلون تفسير وتأويل القوانين الإسلامية وتوجيهها كيفما شاءوا تحت ضغط الجماهير او استجابةً للضرورات الاقتصادية والسياسية اليومية. الا انهم في كل الأحوال متمسكون بالإسلام السياسي. انها نظم إسلامية وهمهم الأساسي هو تطويق المجتمع والسيطرة عليه بتطبيق القوانين الإلهية. هذا هو إسلام سياسي. ثانياً، لنفترض أن هناك فرقاً بين الإسلام الأصولي والإسلام غير الأصولي. اذن أين ولى حق التمتع بدولة علمانية؟ هل بإمكان هؤلاء الناشطين أنفسهم العيش في بلد إسلامي غير أصولي؟ هل هم على استعداد القبول بأن هذه القوانين قوانين الإلهية وكيفية تنفيذها او عدم تنفيذها غير مربوط بنا نحن عبيد الأرض والناس البسطاء؟ ان الجواب ببساطة متناهية منفي. الا انهم على استعداد للقبول بإعداد نسخة من حكومة إسلامية لأفغانستان ويتصورون أن مجرد عيش الناس في هذا البلد حياة القرون الوسطى كافياً. إن كل إنسان شريف يرفض فكرة حكومة دينية أياً كان شكلها بالضبط مثل فكرة الحكومة الفاشية او العنصرية. فالجماهير في كافة أرجاء العالم لها الحق بالحرية وينبغي تشجيعها ومساعدتها للخلاص من شر حكوماتها الدينية والعنصرية. هذه هي الحقيقة البسيطة التي ينكرونها. انا لا أساند العنصريين الذين يناضلون ضد الإمبريالية لتحقيق مطالبهم. بنفس الشكل سوف لن أساند الأشخاص الذين يناضلون تحت راية الإسلام السياسي. إننا نخوض حربنا وصراعنا من اجل الحرية والمساواة والرفاه ليس فقط ضد الإمبريالية بل وضد الإسلام السياسي والعنصرية والتعصب القومي. والحركة المناهضة للحرب اختارت من تتحد معهم من بين صفوف الإسلاميين وليس من بيننا وملايين الناس الأحرار في الغرب والشرق. هذه هي الحقيقة البسيطة والمريرة.
كورش مدرسي: كما قلت فأن الحقيقة هي بالضبط عكس ذلك. فالائتلاف مع أيديولوجيا معادية للإنسان والتخلي عن القوى التقدمية هو العنصرية بعينها. فحين تستخدمون العنصر او الثقافةً معياراً لتحديد ماهية وحق الإنسان فإنكم ستكونون عنصريين.
كورش مدرسي: لنفترض انه انتقام. فهل من الجائز لنا قبول أي انتقام فاشي ومعادي للبشرية؟ هل نحن مستعدون على تقبل امتلاك نفس التصور الذي يغض الطرف عن الفاشيين الذي يهاجمون الأجانب في أوروبا؟ هذه الهجمات هي أيضا من أشكال الانتقام ضد جرائم نظام تجعل الناس الأبرياء هدفاً لها. هل من حق عوائل ضحايا الحادي عشر من أيلول السعي بنفس الطريقة من اجل الانتقام؟ الجواب على كل هذه التساؤلات سيكون منفي بالطبع. ان التعاطف مع هذه الجرائم يكون مبرراً فقط حين تتصورون من تنتقمون منه كائناً أدنى منكم. فلو سرت معاييركم الإنسانية في التعامل على أولئك المنتقمين عند ذاك لن تستطيعوا التعاطف وتبرير تلك الممارسات غير الإنسانية. وهنا تشعرون أيضا بجذور تعدد الثقافات والعقلية والرؤية الاستعمارية. ومن المحتمل أن يكون الإسلام السياسي هو ما يوجه أولئك الناشطين.
كورش مدرسي: في هذه المرحلة ينبغي إعلان الحقوق البديهية للجماهير في أفغانستان، ومساندة إقامة حكومة علمانية منتخبة من قبل الجماهير، وتعريف الإسلام السياسي والإمبريالية بوصفهم خالقي هذه المأساة الإنسانية وفي خاتمة المطاف ينبغي إدانة وشجب فرض حكومة قبلية ودينية أخرى على جماهير أفغانستان. فضلاً عن ذلك ومن اجل تجفيف منابع الإسلام السياسي ينبغي إنهاء احتلال فلسطين والجرائم العنصرية التي ترتكبها الدولة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. هذا هو السبيل الوحيد للخروج من الأوضاع الحالية. هذا هو السبيل الوحيد الذي يدفع بجماهير أفغانستان للتدخل والمشاركة في صياغة مستقبلها. و ليس امراً عجيباً أن لا الحركة المناهضة للحرب ولا الإمبريالية لا ينطقون ولا حرفاً واحداً عن حق جماهير أفغانستان في التمتع بحكومة علمانية منتخبة. ان هذا برأيي ليس مصادفة ابداً.