كورش مدرسي
ترجمة: فارس محمود
ان التحولات الثورية في تونس ومصر وبغض النظر عن مآلها، فانها وبالحد الذي بلغته الان، غيرت للابد لا الاوضاع السياسية والاجتماعية في هذه البلدان فحسب، بل الجغرافيا السياسية في مجمل الشرق الاوسط، وبالتالي، العالم صوب اوضاع يمكن تحملها اكثر.
ان خصيصة البلدان العربية تتمثل في ان هذه البلدان، وعلى امتداد تاريخنا المعاصر، لم تمر في يوم ما عبر صيرورة ثورية. اذ لم تحدث في هذه البلدان ثورة ما. ان التاريخ السياسي لهذه المجتمعات، الى الحد الذي احدث تغييراً، قد جرى اساساً عبر الانقلابات والتغييرات من فوق.
ان للثورات العامة، وبالتالي الديمقراطية، في تاريخنا المعاصر، دور حاسم جدا في الذهنية الفردية والاجتماعية لافراد المجتمع وفي العلاقات الطبقية، وبالاخص صلة البرجوازية بالطبقة العاملة.
ان التباين بين مثل هذه الروحية قد تتجسد في اكثر اشكالها بروزاً فيما يطلق عليه ماركس الروحية الالمانية والروحية الفرنسية. بالنسبة للفرنسي، الحكومة لم تكن قط ظاهرة مقدسة او لايمكن الاطاحة بها. اما الروحية الالمانية، فان الدولة تتمتع بالحق طبقاً للتعريف، وان الاحتجاج على الدولة امراً غير عادي نوعاً ما. اذ يتحدث الكسي دوتوكويل (de Tocqueville)، احد طليعيي علم الاجتماع والعلوم السياسية البرجوازي الفرنسي في اوائل القرن التاسع عشر بالاشارة الى الظاهرة ذاتها: "ان الثورة في المانيا هي امر محال، لان الشرطة اعلنت انها امراً ممنوعاً".
يمكن رؤية اختلاف هذه الروحية في العديد من بلدان العالم، التي جرت فيها ثورة ديمقراطية. هنالك تباين ما بين الروحية الايرانية فيما يخص الدولة مقارنة بالروحية في بلدان العالم العربي بهذا الخصوص، ان هذا لامر جلي.
ان ما هو في طور التغيير اليوم في تونس ومصر، او بالاحرى ما تغير الان، هو هذه الروحية بالتحديد. روحية رجت هزتها تقريبا مجمل بلدان العالم العربي، الى حد دفع امير الكويت الذي اصابته الحيرة و يشعر بالارتباك، للاعلان انه خلال 14 شهر المقبلة سيكون نصيب كل مواطن كويتي 3400 دولار شهرياً.
ان الثورة العامة والديمقراطية تترك تغيرات هائلة في عمق المجتمع. ان جماهير مسلوبة الحقوق ومقموعة تحطم مؤسسة دولتها. يكتسب الانسان والفردية الانسانية كرامة وحيثية جديدة، يتصاعد الاحساس بالاقتدار الفردي والجمعي بوجه الدولة. ان حيثية وكرامة الانسان يغدوان اساساً على الاقل من الناحية الظاهرية، ويتلاشى الخوف من مؤسسة القمع مع تحطم مؤسسة القمع نفسها ،وان مبدأ امكانية الاطاحة بالدولة يتحول الى جزء من السايكولوجيا الاجتماعية التي ستبقى دوما في ذهن المجتمع والحكومة. ان شبح الثورة وكابوس انفلات الاوضاع ستبقى حية دوماً في ذهن الدولة، وان هذه الحقيقة تغير كل صلة المجتمع والحكومة.
ان الثورات الديمقراطية او البرجوازية، ثورات تندلع في اطار المطاليب البرجوازية، تستند طبقاً للتعريف، واستناداً الى سماتها البرجوازية، الى اعلان اصالة الفرد بصورة مستقلة عن العلاقات الاجتماعية. ان هذه الثورات تبرز الحيثية الانسانية والحقوق الفردية للانسان وتحوله الى احد المعطيات "الطبيعية" للمجتمع. ان البلدان العربية هي في هذا المسار. لقد طوت تونس قسم مهم من هذا المسار، وان مصر في منتصف الطريق.
زد على ان مايجري في تونس ومصر هو صفحة اخرى من الصلة العائمة والمائعة بين طبقات المجتمع المختلفة في خضم مثل هكذا ثورة، وهو امر غني بالدروس لكل عامل واعي.
في الحقيقة ان الثورة لايمكن تصنيفها بـ"حسنة" و"سيئة" او "ياليت كان هذا" و"ياليت لم يكن هذا". ان الاوضاع الثورية واندلاع الثورة ليسا ظواهر يكون حدوثها عبر تحكم اي فرد او حزب. ان الازمة الثورية واندلاع الثورة مثل هزة ارضية او طوفان لهو خارج عن تحكمي وتحكمك. ثمة جملة معقدة جداً من العناصر السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والتاريخية، سواء على الصعيد المحلي او على صعيد عالمي، حيث لكل منهما دور في صيرورة ثورة ما. ان الثورات في اندلاع مستمر دوماً. بيد ان ما يحدد حصيلة ثورة ما تماماً هو دور الطبقات وكيفية تدخل هذه الطبقات في السياسة، اي عبر قناة حركات اجتماعية واحزاب سياسية. ينبغي على الطبقة العاملة ان تعانق هذه الثورات، وان اندلاع مثل هذه الثورات هو لصالح الطبقة العاملة قبل اي طرف اخر. انها تفسح المجال لتدخل هذه الطبقة في المجتمع.
ان هذه الثورات تعرف نفسها بصورة طبيعية للوهلة الاولى بشعارات عمومية وشاملة ومتنوعة التفسير من قبل الجماهير العريضة للمجتمع. ان الحرية او المساواة هي شعارات، يملك كل شخص تفسيره الخاص لها. وان نفس السمة الضبابية و"غير المحددة" للشعارات تسمح للثورة تحريك اوسع مايمكن من جماهير المجتمع.
مع حركة عجلة الثورة، تنفتح اجواء المجتمع. تتوفر لجميع الطبقات، وبالاخص الطبقة العاملة، امكانية التدخل في السياسة وامكانية التنظيم والتحزب السياسي.
ومع اي خطوة تخطوها الثورة، يتخذ الصراع بين طبقات المجتمع من اجل تحديد اهداف وشعارات هذه الثورة طابعا ابرز وتضادي على الاغلب. ان الثورات الديمقراطية في المجتمعات الراسمالية تفسح الاجواء امام مجمل الحركات ومجمل الطبقات والاحزاب. بيد ان الدور الذي تضطلع به هذه الطبقات وهذه الحركات والاحزاب بهذا السياق مرهون بها كلياً.
ان الثورة في تونس ومصر تعرض صفحة قياسية (استاندارد) وكلاسيكية الى حد كبير للصلة مابين الطبقات المختلفة وبالاخص البرجوازية، البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة. ميدان ينبغي على الطبقة العاملة في ايران ان تتابعه بدقة، تتعلم منه وان تهيء نفسها لمجابهة مثل هذه الاوضاع التي ستحدث بصورة لامناص منها عاجلاً ام اجلاً في ايران.
في تونس ومصر، تحركت جماهير عريضة، هي خليط من طبقات مختلفة في ألمجتمع. البرجوازية الحاكمة تتراجع شيئاً فشيئاً، وتسعى لان تحافظ في كل مرحلة من مراحلها على اقل حد من الامكانات، وتصون مؤسسة الدولة والشرطة والجيش من التداعي والانحلال، وترسي النظام والسكينة، وان تدفع الجماهير الثورية للارهاق و انهاك قواها، بامل ان تبقى في السلطة باي شكل من الاشكال.
ان البرجوازية في المعارضة هي ذيلية تجاه الثورة، وتسعى عبر الاستناد الى الجماهير الثورية لانتزاع اكثر مايمكن من الامتيازات من الجناح الحاكم، وان تنقذ مؤسسة الدولة وادوات الحكومة، النظام والقانون البرجوازي من الهجوم والتصدع. انها تعرف نفسها بوصفها بديل الحكومة. اما الاقسام المختلفة للبرجوازية فـ"تسمع صدى الثورة" تدريجياً، يغيرون غدا المجلس الوزاري، بعد غد تتراجع الى خندق اخر، تعرف الجيش بوصفه الوسيط والمنقذ، يطرحون شخصيات و احزاب الواحد بعد الاخر امام المجتمع، و يستمر هذا المسار في تطور وتحول طالما الثورة مندلعة.
ان حصيلة الطبقة العاملة من مثل هذه الثورات يعتمد على مكانتها السياسية والاجتماعية وبالاخص درجة وعيها واتحادها الداخلي. في حالة غياب مثل هذا الوعي والاتحاد في صفوف الطبقة العاملة، فنها تخسر فرص ذهبية. ولكن على اية حال، تتفتح براعم وعي واتحاد داخلي للطبقة العاملة وتنمو اشكال اولية الى حد كبير من التحزب والوعي الشيوعي. الى اين تصل الثورة في تونس ومصر او هل تمضي ابعد من هذا الطور او المرحلة، امر مرهون فقط بدرجة انسجام واقتدار الطبقة العاملة.
يتعرض نشطاء الطبقة العاملة في مصر ومنذ زمان جمال عبد الناصر، اي في 1955، الى اعمال قتل جماعية وتم قمع منظماتهم وتحت ضغوطات مستمرة. ان الطبقة العاملة في مصر تدخل هذه الثورة دون تحزب ودون تنظيم. يبدو ان الطبقة العاملة في تونس تتمتع بمكانة افضل. الا انه و في كلا الحالتين لانشهد وجود ونفوذ شيوعية بروليتارية متشكلة في تنظيم داخل الطبقة العاملة لهذه البلدان وسائر البلدان العربية او ملامح من ذلك امامنا. وعليه، ينبغي الافتراض ان بوسع هذه الحركة ان تولد وتشرع باعمالها الان.
هل يحدث هذا ام لا؟ انه امر يتعدى معلومات وامكانيات تدخل امرء من مثلي. ولكن ينبغي القناعة بحقيقة انه بدون وجود اتحاد داخل الطبقة العاملة، ستبقى مكاسب الثورة العامة (اي التي يشترك بها الجميع-م) والديمقراطية في هذه البلدان محدودة. ستجهض المطاليب العامة حتى لو كانت على هيئة ثورة ديمقراطية، ومن المؤكد ان هذه الثورة لن تمر بصيرورة ديمومتها وتواصلها الى تحول اشتراكي.
بيد ان لاينبغي لهذا المسار ان يلقي بظلاله على حقيقة انه بغض النظر عن ذلك، وللحد الذي بلغه الامر الان، سيفرض نسيم الثورة العامة من اجل الحرية والكرامة الانسانية في البلدان العربية التراجع على المستنقع الاجتماعي الذي اطبقته الرجعية الحاكمة على هذه البلدان. ان الحلفاء والداعمين الاساسيين لهذه الرجعية، اي الرجعية الامريكية-الاسرائيلية المستندة الى تامين اسر الانسان واذلاله واهانته في البلدان العربية امام سلطة الدولة، سيضعفا بشدة. وربما، و بالاهمية ذاتها، هنالك امكانية اضعاف كل هذه الرجعية السائدة، و سيضمحل المستنقع الذي تنموا فيه الرجعية الاسلامية.
ان الثورة في تونس ومصر ستحرك كل البلدان العربية دون شك، وستغير علاقة الجماهير بالدول الرجعية الحاكمة في هذه البلدان. ستقلص هذه الثورات من ارضية تنامي الاسلام السياسي، وستخلق فرصة بشكل او باخر فرص للتنظيم والوحدة، وعلى قول لينين، ستتعلم الطبقة العاملة من هذه الثورة كل يوم بقدر مئة عام.
ستنثر هذه الثورات موجة غبطة من الحرية والكرامة الانسانية على جميع المنطقة، على جميع البلدان العربية، وبالاخص على جماهير فلسطين ومصيرهم.