كورش مدرسي: انه وضع يجمع كلا الادعائين. اولاً، ليس من المقرر ان تخرج امريكا الان كل قواها من العراق. بعد خروج قواتها الذي تتحدث عنه، لازال اكثر من 50 الف من الجيش الامريكي باق في العراق. يقولون انهم يخرجون قواتهم القتالية الان، ويبقون على قواتهم اللوجيستية، الداعمة، التدريبية والامنية وغيرها. وعليه، فالبحث لايتعلق الان بالاخلاء التام للعراق.
بيد ان كل السياسة معلومة. سياسة الحيلولة دون التعرض للضرر في اي مكان هو امر بصالحهم. ينشدون وضع خاتمة للفشل الذي لحق بهم الى اخر حد ممكن. يبغون الابقاء على العراق الان على نفس المنوال، لم يخسروه ولم يفتحوه، كي يحولوه، عبر دعم السعودية دول مثل باكستان والاردن ومصر وغيرها، تدريجياً الى بلد حليف للغرب. بالاخص ان السعودية انفقت اموالا طائلة على هذا الميدان وتسعى الى جمع وتقوية قواها الحليفة.
ما اود قوله انه لامر صحيح ان الاخلاء هو تراجع بالنسبة لامريكا، ولكن امريكا موجودة هناك. بالاضافة الى ان السعودية وامريكا شرعتا في الاشهر الاخيرة، في الانتخابات الاخيرة الى تقوية التيارات القومية الموالية لها مالياً وسياسياً وعسكرياً، وفي العملية الانتخابية وبعدها دفعت للميدان فعلاً قوى سياسية موالية لها اكثر تنظيماً.
وعليه، ان توازن القوى والصراع بين القوى السياسية في العراق باق على نفس المنوال في الوضع الراهن. اي ان العراق باق على حاله يفتقد للاستقرار و يعيش وضعا معلقا. ان هذا الوضع يبقى على حاله طالما لم تتمكن احد الحركات والقوى السياسية الاجتماعية، عبر فرض تحكمها وسيطرتها، من تاسيس مستقبل اكثر ثباتاً واستقراراً للعراق، فالاوضاع الراهنة تبقى على حالها الى حد ما، ليس للقوى السياسية والاجتماعية الاساسية للعراق الان مصلحة في الاخلال بما يسمى هدوئها و ليس هنالك اية دلائل على ان الاوضاع تتغير بشكل جذري.
كورش مدرسي: ان الهزيمة هي هزيمة مشروع او استراتيجية المحافظين في الضربة الاستباقية. هزيمة مشروع بدأه جورج بوش. اسس وصاغ المحافظون الجدد استراتيجيتهم برؤية يمينية وبلهاء في الوقت ذاته. قالوا انهم ذهبوا للسيطرة على العراق، وينقلوا مجمل قواعدهم العسكرية من البلدان العربية الاخرى وبالاخص السعودية، وليجعلوا من العراق اسرائيل اخرى، وليحتل مكانة السعودية، ويكون لامريكا قدرة التحكم على كل المناطق النفطية للشرق الاوسط، وتتحكم عملياً بالشريان المصيري للصين وغيرها وتوجه ضربة جدية للعالم وتظهر له من هو رئيس العالم. لقد الحق بهذه الاستراتيجية اليمينية والبلهاء الهزيمة.
تتمثل سياستهم اليوم بانهم "اذا لم يحققوا النصر، فلنحول دون الخسارة ونثبت ماحققناه بوصفه انتصارا"ً. وان يكن العراق اليوم بلد لم يتم فتحه بالنسبة لامريكا ولكن لم يفقدوه كلياً، لازالوا يعتبروه بلدا يمكن فتحه. يسعون اليوم لاحتواء والتحكم باعراض هذه الهزيمة وتغيير الاستراتيجية. يرضون بمكاسب اقل، ينشدون عراق يكون للقوات الامريكية مكان فيه، وان تكون امريكا ذات نفوذ هناك، تكبل الى حد ما ايادي ايران وسوريا او القوى التي لاتتمتع بصلات جيدة مع امريكا او اسرائيل.
كورش مدرسي: لا اتفق مع هذه الصيغة. يعد خروج القوات الامريكية من العراق مكسباً بالنسبة للجمهورية الاسلامية دون شك. بيد ان هذا المكسب ليس بجديد. ان تثبيت هذا المكسب هو الشيء الذي جنته الجمهورية الاسلامية بهزيمة المحافظين في العراق. ان امريكا الان بمعنى ما اكثر طأطاة للرأس من مرحلة بوش. ينبغي ان لا يغيب عن بالكم ان مرحلة بوش كانت مرحلة الحديث عن تغيير النظام الايراني. لقد اركنت هذه السياسة جانباً اليوم. ان ذلك يعد نصراً للجمهورية الاسلامية. بيد ان هذا النصر قد حققته سابقاً، وان خروج القوات الامركية في هذه الحالة ليس سوى تثبيته وترسيخه.
ولكن فيما يخص الاعمال التفجيرية وغيرها، لايساورني شك انه لحين تغيير العناصر الاكثر اساسية يبقى العراق في الاطار السابق، اي ميدان للاعمال التفجيرية. ان اي من القوى الاساسية المنخرطة لاترى في اعمال العنف هذا مصلحة لها فعلاً. الا اني اعتقد ان الصراعات تبقى على نفس المنوال الى حد ما. اذ يسعى كل طرف يرى ان الكفة على وشك ان تميل بغير صالحه، الى جر الطرف المقابل الى اشراكه اكثر عبر هذا النوع من الارهاب. ان ما يقف اليوم في العراق خلف الاعمال التفجيرية والارهاب هو الصراع على السلطة.
اليوم اصبح معلوما الى حد ما فعلاً واجمالاً حصة الحركة القومية الكردية، الحركة القومية العربية الشيعية والحركة القومية بمعيار عراق علماني وعربي. ان الصراع الاساسي يدور بين جذرين للحركة القومية في العراق ينشدان تقسيم منصب رئيس الوزراء وسائر المناصب الاساسية الاخرى فيما بينهما. بيد ان ليس ثمة مصير ومستقبل افضل ينتظر جماهير العراق.
تصوري هو ان الوضع يبقى على حاله. اللهم الا اذا طرأت عوامل مهمة اخرى مثل حملة اسرائيل على ايران او اشتباك امريكا مع ايران. عندها ستتغير كل اللوحة.
كورش مدرسي: لا اتصور ان مجرماً له مسؤولية اخلاقية امام ضحيته. ان حكومة امريكا قوة مجرمة. لقد اودت بحياة مئات الالاف من الجماهير في العراق ودمرت حياة الملايين لعدة اجيال. أينبغي في جريمة مثل هذه الحديث عن المسؤولية الاخلاقية للقاتل او اعطاءه مسؤولية ما؟
ان كانت ثمة مسؤولية، ينبغي بدءاً جر بوش وبلير الى المحكمة ومحاكمتهم بوصفهم مجرمي حرب، وبعدها تحديد عقوبتهم والجزاء الذي على هذه الدول ان تدفعه لجماهير العراق. بيد ان تنفيذ هذا العمل يتناقض مع وجود القوات الامريكية في المنطقة. لم تحضر القوات الامريكية هنا بناءاً على مسؤولية ما. انها هنا لارعاب العالم. جاءوا من اجل العنجهية وضمان الهيمنة الامريكية، وينبغي ان يرحلوا فوراً. اسمحوا لنا نحن والطبقة العاملة في ايران والعراق ان نحسم مصيرنا مع الانظمة التي نحن في مجابهة معها.
ان وجود القوات الامريكية في هذه المنطقة هو فقط ضمانة لديمومة الانظمة الرجعية في ايران، العراق، السعودية، اسرائيل، مصر وغيرها، وكذلك التيارات الرجعية مثل القاعدة وغيرها. ان وجود وتدخل امريكا يطيلا عمر وحياة هذه الانظمة ومجمل الجماعات الرجعية ويجلبا مصائب وماسي وويلات اكثر للجماهير الكادحة في هذه المنطقة. انهما يبعثان اوكار الفساد والتخلف والرجعية مثل السعودية وايران لتقف على اقدامها.
عن اي مسؤولية اخلاقية لامريكا نتحدث؟ ان امرء يتحدث عن ان لامريكا مسؤولية اخلاقية قد قبل سلفاً بمسالة ان لامريكا دور او وضعت مسؤولية على عاتقها. ولكن من منح مثل هذه المسؤولية لامريكا؟ هل بوسع الليبراليين والصحفيين ان يوضحوا مصدر منح هذه المسؤولية؟
برايي، ليس لامريكا مسؤولية، ليس هذا وحسب، بل انها مجرمة. ان جورج بوش وديك تشيني ورامسفيلد وتوني بلير مجرمي حرب. اضف لهم مجمل الذين كان لهم دور حاسم في فرض هذه الكارثة على جماهير العراق والمنطقة. ينبغي بدءاً ان تدفع هذه الدول تعويضات. ينبغي منح التعويضات لجماهير العراق، وان يتم ضمان عدم تكرار مثل هذا الامر في مكان اخر من العالم.
كورش مدرسي: ربما يكون هذا الحديث صحيحاً لو ركزت امريكا قواتها في مكان اخر من المنطقة. ولكن لا افهم ان طرف ما ينشد شن حرب لماذا يخرج قواته من المنطقة؟
ينبغي حسبان هذا كجزء من الدعائية الحربية لكلا الطرفين. ليست الحملة على ايران امرا مطروحا على جدول اعمال امريكا برايي. ولكن من الممكن ان تقوم اسرائيل بهذا العمل. وفي مثل هذه الحالة فان وجود القوات الامريكية في العراق ايضا ليس بضرر امريكا بالضرورة. في اوضاع مثل هذه، تنشد امريكا ان تلعب دور مرسخ ومستقر اكثر على المدى البعيد من ان تشن حملة.
كورش مدرسي: اولاً، ان افغانستان هي قصة وقضية اخرى، اسمح لي ان احيل هذا الامر الى مناسبة اخرى. عندها سنتحدث عن ماضي افغانستان وحاضره ومستقبله. ونوضح كيف ان المنافسة الامبريالية قد دمرت نسيج ذلك المجتمع واعادته الى القرون الوسطى. واليوم كذلك لايمكن تنظيم مجتمع عبر اللجوء الى علم الادارة. ان هذا بحث مفصل ينبغي تناوله في مناسبة اخرى.
ثانياً، فيما يخص التناقض الذي ذكرته، ليس ثمة تناقض هنا. لقد تحولت سياسة امريكا تجاه الجمهورية الاسلامية من سياسة العصا لمرحلة بوش الى سياسة العصا والجزرة. ان وجود الجمهورية الاسلامية والصلة معها اصبح امرا معروفاً، المسالة حول تثبيت نوع وشكل هذه العلاقة. امريكا تريد ان تقوم هذه الصلة بشكل يتطابق مع مصالحها في المنطقة. ليست الحملة العسكرية على ايران مطروحة وفق هذه الاستراتيجية. ان كان هنا شيئا ايضاً فهو فرض عقوبات وليس مسالة تغيير النظام. ولكن اذا كان الابقاء على الاجواء الحربية والمقاطعة الاقتصادية هي السوط فان المفاوضات والاتفاق هي الجزرة. يعني الان استعمل السوط كي تاتي لنتفاوض. ان هذه سياسة امريكا. ولهذا، ليس ثمة تناقض هنا. انها ركني استراتيجية واحدة. استراتيجية جر الجمهورية الاسلامية للتفاوض والتوافق. انها الاستراتيجية ذاتها في افغانستان. ان الهدف من العمليات العسكرية لا من اجل الحاق الهزيمة بطالبان وانما لجرهم الى التفاوض.
ولكن ثمة عناصر اخرى موجودة خارجة عن سيطرة الحكومة الامريكية تماماً. احدها عنصر اسرائيل بمجمل معضلاتها الجذرية و وجودها ذاته و وجود حكومة رجعية بشكل مفرط. و اخر هو وجود دولة بالدرجة ذاتها من الرجعية المفرطة هي الجمهورية الاسلامية في ايران.
بوسع اسرائيل ان تشرع باي تصرف وتجر اقدام امريكا سواء شائت ام ابت للوضع. بالمقابل، بوسع ايران ان تشرع من ناحيتها بعمل ما ايضاً. ان ماهو مهم بالنسبة لجماهير ايران والطبقة العاملة في ايران هو اجواء قرع طبول الحرب.
اولاً، اجواء قرع طبول الحرب الذي تعمقه اسرائيل والحكومة الايرانية، وهي تمثل سياسة العصا الامريكية قد خلقت اجواء خطيرة الى ابعد الحدود. انه كمن يشعل عود ثقاب في عنبر من نشارة الخشب الجافة، وبعدها يفكر ايضاً بان لاتفلت عود الثقاب من يده. في المطاف الاخير، في لحظة ما يسقط عود الثقاب من يد احد ما وترمى اثر ذلك كل المنطقة في محرقة. ستكون الكارثة التي ستحل على جماهير ايران وجماهير المنطقة هائلة جداً.
ثانياً، ان اجواء قرع طبول الحرب ذاتها ستكون باعث لان تشدد الجمهورية الاسلامية لقمعها وستحشد كل النزعة القومية الايرانية حولها. ان اية رصاصة او صاروخ تطلقه امريكا او اسرائيل على ايران سيطيل عمر الجمهورية الاسلامية لسنوات، ويجعل من الاطاحة بالجمهورية الاسلامية بالنسبة للقوى الثورية في مجتمع ايران وبالاخص الطبقة العاملة اصعب بمرات.
لسنا "فتاحي فال" او قارئي كف حتى نقول ستندلع الحرب ام لا. ولكن ينبغي علينا ان نتمكن من رؤية الاجواء التي تُخْلَّقْ وعواقب هذه الاجواء. ينبغي التصدي لتعميق وتشديد هذه الاجواء من قبل ايران، اسرائيل او امريكا. بخلاف ذلك علينا ان ننتظر حدوث الكارثة. كارثة ستعيد المجتمع في ايران ومجمل المنطقة قرون للوراء.
لست واثقاً من ان الحرب موجودة على اجندة امريكا، ولكنها ليس متحكمة كذلك بمسالة اندلاعها. بيد ان اجواء قرع طبول الحرب على اجندتها. ان تعميق اجواء قرع طبول الحرب موجود على اجندة الجمهورية الاسلامية واسرائيل كذلك. ليس مهما من يسحب الزناد اساساً. ليس مهم اساساً من يبدأ بالحرب. تكمن القضية في رمي جماهير المنطقة ببرك من الدماء، بابعاد لا تكون فيه مصيبة العراق الا شيء بسيط مقارنة بها. ينبغي التصدي لها.
كورش مدرسي: العراق بلد لاتملك اي من الحركات السياسية والاجتماعية الاساسية فيه اليد الطولى لحد الان. وعليه، ليس بلد واحد لحد الان. ان هذا مصدر انعدام الاستقرار.
انى أتحدث عن بلد ذا ثبات، تكون احد التيارات الاجتماعية الاساسية، سواء أكانت قومية او اشتراكية، في بلد لها اليد الطولى وتضفي عليه هوية، وبالتالي استقرار. توحد البلد وتضفي عليه هوية قومية او هوية بلد.
لقد كان عراق مرحلة صدام حسين يتمتع بهذه الهوية. ان العراق بلد عربي ابقي عليه مستقراً عبر الاسلحة الكيمياوية واحواض الاسيد. وعليه، عاش الناس حياتهم بالمطاف الاخير في اطار القرارات المدنية والسياسية والاقتصادية لذلك البلد.
الامر ليس كذلك اليوم. اليوم لدينا الحركة القومية في كردستان اقامت حكومة، لكن حتى هذه الحكومة هي غير حقيقية. حكومة تقوم على اساس تقسيم اموال النفط فحسب. ليس ثمة انتاج او مؤسسة مالية مهمة في كردستان :انها ليست مثل الامارات مثلا. وعلى هذا الاساس، ليس لها مستقبل واضح. ولهذا، ان القسم الاكبر من اصحاب الثروات ومثقفي هذا المجتمع يقفون على ارضين. احد اقدامهم في كردستان العراق والاخر في الخارج. انهم يحصلون على الاموال هنا ويوظفوها كراسمال في الخارج. ومتى مايريدوا ان يرحلوا، يرحلوا. على الرغم ان في كردستان العراق حريات سياسية واسعة مقارنة بالشرق الاوسط، ولكن ليس ثمة من يرى مستقبل يبعث على الاطمئنان امامه. البرجوازية هناك تعيش حياة مؤقتة. في المنطقة العربية من العراق، يوجد جذرين قوميين. جذر يرى مستقبل وتنامي الراسمالية في العراق عبر الوحدة مع ايران، واخر يمثل البعثيين احد اركانه، جذر علماني بمعايير الشرق الاوسط ويرى نفسه منافساً لايران. تمثل التيارات الشيعية القومية الشكل والنوع الاول.
وللخلاص من هذه الوضعية، اما على العراق ان يتقسم الى بلدين او ثلاثة او يصبح بلد واحد. لاياتي عراق واحد على ايدي القوميين الكرد. اما ان يقوم احد القوميين العرب بهذا العمل او الحركة الاشتراكية للطبقة العاملة التي لاتتمتع بقدرة كبيرة الان. لايمكن للعراق ان يكون مثل سويسرا فدرالياً. في سويسرا، ثمة مصلحة مالية- مصرفية واحدة جمعت كل الكانتونات (المقاطعات) حولها. في العراق، ليس ثمة مثل هذه المصلحة.
وعليه، على المدى البعيد، ليس بوسع العراق ان يبقى على هذا الحال. ولكن في الوقت الراهن و الى ان تحسم هذه القوى امرها فيما بينها، تبقى اوضاع العراق على حالها.
برايي يقف العراق على مفترق طرق وان لاعبي هذا الميدان هم من يحددوا من ينتصر ومن يهزم. وطالما لم يحقق طرف اليد الطولى بشكل كامل وحاسم، يبقى العراق بلد بدون مستقبل، تنتزع البرجوازية الاموال وتضعها في جيبها لتهرب من هناك. انها تقف على ارضيتين احدهما الداخل والاخر الخارج.
بدون حدث مهم، مثل الحرب مع الجمهورية الاسلامية، لايجلب خروج القوات الامريكية تغيير جدي في اوضاع العراق.